vendredi 2 février 2007

اليمبوس

اليمبوس
الياس فركوح
"الأمر أشبه بحلم ليس لك.
استعرته من غيرك واحتفظت به لنفسك. لم تعده لهم. صار جزءا منك. وهكذا تحوّل إلى ملكية تنازع العالـم عليها ولا تفرّط بها. أبدا. تحوّلت حقائق الآخرين حقوقا لروحك ما دامت نغلت فيك. فمن يجرؤ على استعادة الروح، بما تحمل، سوى مانحها!".
خاطبتُه بصوت خفيض، لكنه لم يجب. كان غافيا لا يزال. تحركتُ بين السرير والنافذة. فتحت الباب متخذا خطوة واحدة للخارج. الممرّ غارق في لمعة خافتة وسكينة تامة. عند باب غرفة في آخره، بالمقابل البعيد، ركنت سلّة ورد عامرة على الأرض. لم تجعل إضاءة النيون المحملقة للسلّة أي ظلّ. ثم التفتّ نحو اليسار، فكان "كاونتر" الجناح خاليا إلاّ من ممرض واحد. لمحته يتملّى أوراق مرضى مناوبته المثبتة بملقط اللوح المعدني الحامل لها. رددت الباب دون صوت. مررت بلوحة "السفينة" ووقفت عند النافذة. رأيت النهار في أوّله. تشققات الفجر أسالت مزيدا من ضوء بدأ خابيا، إلاّ أنه تقاوى الآن؛ فأرسل أعمدة رشحت منه. رأيتها أعرض وأسرع نفاذا إلى الأرض: رأيتها تقيم الحياة على ركائز نورانيّة.
عدت إليه.
رأسه شبه مائل على الوسادة الوثيرة، غائرا في طراوتها. لا يزال نائما بسلام. هو سلام، كما بدا لي وفهمته، عندما أقرنه بهدوء الوجه الخالي من علامات الألم. ولأنه كذلك، نائم، ولأني مليء بما لا أعرف لمن أتوّجه به؛ وجدتني أبوح للأوّل والأخير:
"يا الله!
كم ثقيلة هي الروح! كم سرّك المكنون لغز مغلق وأحجية مستحيلة! كم أبهظته الأيام بما حطّت فيه وشالت! كم أنا وهو - نحن الاثنان في هذا الواحد الراقد على ظهره يرنو باتجاه السفينة على الحائط، مغمض العينين: كم هو خالص مبرّأ من غيره تماما! الآخرون لا يعون حضورهم المحفور فيه. لا يرونه ولا يعاينون وضوحه؛ فلا يكون وجودا يعترفون به. وهو كذلك؛ يجهل كم كان حضوره يشكل جرحا يثلّم طبقة غائرة لديهم. كم قطع ووصل وشائج بغض ومحبّة. هو لم يتقصّد أن يؤذي، إن آذى، لكنه أخطأ ففعل. فعل كثيرا فأخطأ كثيرا. لم يفطن إلى نسغه الأوّل إلاّ مؤخرا. ولمّا أدركه بوعي؛ بات يخاطب طارقي بابه من الأغراب: "ادخلوا بسلام"، ويشرعه لهم جميعا. يطعم الجائع، ويكسو العاري، ويطمئن الخـائف، ويدفئ البردان، ويحنّ على الملهوف، ويأوي الذي بلا مأوى.
يكتب لهم كلمة "المحبّة" قاصدا متعمدا مفصحا عمّا في القلب؛ فتشاكسه "ماسة" قائلة بغيرة نصف صادقة، وبغنج كامل:
"هكذا! فماذا عني أنا؟ ألست حبيبتك الوحيدة؟".
عندها؛ يحار في أمر كان أوضحه لها مرارا، فينكشف الارتباك، على الفور، في عينيه. يجرّب للمرة الألف أن يفسّر بأنّ المحبّة للجميع، والحبّ للواحد!
ولأنه ليس نبيّا اصطفيته يا الله، ولم يطمح هـو أن يكونه؛ يمدّ يـديه إلى صدرها ويعرّيه! تتأوّه المـرأة. تهمس "ماسة" بشبق حواء، وتحدّق بعيني لبوءة:
"تصلّـبت حلمتاي! مرآك يثيرني! أرأيت؟".
وكان يرى، فعلا، فيأخذهما بفمه على التوالي. يرضعهما، ماسحا وجهه بمزيج عرق ثدييها المتنمرين بعرق جبينه المتمرّغ عليهما. ليس كاملا هو. لعلّ ما يفعله أشبه بحلم تمنّاه يوما، فعمل على امتصاصه ليسري داخله، ويشبع! غير أنّ الحلمتين لم تدرّا حليبا ظلّ ينشده. وربما تكون لحظات الوصال هذه إحدى جولات عمره الرابحة! لكنها تبقى ناقصة أبدا. لا تكتمل. أبوه قالها: "لا شيء يكتمل!".
كم، يا الله، تمنّى لو أنّ "ماسات" عمره يدخلن عليه، ليعترف في حضورهنّ، بضعفه!
كم، يا الله، شقيت روحه وتشققت من أجـل رشفة حب واحدة تكفيه ليرتوي؛ فلا يطلب "ماسة" أخرى تبلل جفافه، وتخّلصه من بلوى الاحتياج!
كم، يا الله، صلّى على طريقته، وابتهل في سريرته وسريره، أن تجتمع نساء الأرض في واحدة تقيه النقص الفادح فيه، وتمنع عنه الخطيئة!
أخاطئ هو، يا الله!
في أيّ من جوانب ملكوتك ستودعه؟".
عدتُ إليه.
جلست عند رأسه المائل ناحيتي. لم تتغيّر عضلة في وجهه. مستريحاً ينام بسلام. خصلة من شعره بلون البلاتين التصقت بجبينه العريض. ثمة تعرّق خفيف. حركت ذراعي لألتقط علبة المناديل الورقيّة ورائي، فاصطدمت بجهاز التسجيل على المنضدة. التفتّ ورأيت، إلى جوار الجهاز، علبة الشريط فارغة. تناولتها: هي هي: كارمينا بورانو لكارل أورف! لا يزال مأخوذا بها، ينقلها معه أينما ذهب. في سيارته يضع نسخة، وأخرى في البيت، وثالثة أهداها لآخر "ماساته" قائلا:
"منتهى. ضعي هذا الشريط في المسجل".
"أهو أغان؟"، سألت.
"ضعيه وتعالي نحلّق في سماوات أخرى!".
وحين أنصتا إلى وجهه الأوّل للنهاية، وقبل أن تقلبه للثاني، علّقت:
"ما هذا؟ كنائس وقداديس!".
"ربما. ماذا رأيت أنت؟".
فناورت: "أنا أسمع الموسيقى. هل تراها أنت؟ ".
فأجاب: "أسمع، وأرى، وأحس".
فسألت: "أخبرني، هيا. أنا فضوليّة ".
فقال، بينما تجول عيناه في السقف:
"مع هذه، أنا لست من هذا العالم! أنا إنسان آخر. لست هنا الآن!".
عدتُ لأعاين وجهه.
كان تحرك في الأثناء. بان السواد تحت عينيه أقلّ قتامة. إنه الانقطاع القسري عن التدخين. خطر لي، لحظتها، أن أسأله عمّا يرى، ويسمع، وبماذا يحس.
لكنه أفاق دون أن أنتبه. كنت سهوت، لا بدّ.
قال مازحا، بنبرة من لم يكن نائما قط:
"أما زلت ترصدني؟ أنا لم أمت بعد".

(فصل من رواية تصدر قريبا عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" بعنوان "أرض اليمبوس")